الشوق يدفعني إلى البكاء
وعدت إلى الأوراق البيضاء من جديد ، أغيّر منظرها ربّما إلى حال لا يرضيها أبدا ، وقد تبدّل لونها ، وأعرض النخاسون عنها ، وعدت إلى قلمي الذي ما تركني يوما في وحدتي ، عدت إلى الشوق الذي تملّكني صغيرا ، وإذ أصبحت اليوم فيه بلا قوى ولا قرار ، وسلبت الألوان مني قراراتي ودفاتري ، وظلّت وحدها الآمر الناهي .
عرفت يا عماد أني قد فقدتك اليوم ، بل عرفت أني قد فقدتك قبل أن يأتي اليوم ، وقد اعتدت عليك أن تأتي مع اليوم إليّ ، وتسمعني صرخة ألم صمّت الأذان عنها منذ حين ، فأنت من كان يخرجني إلى قلب الألم ؛ لعلّي أكره الألم ، فما نجحت أنت ولا أنا ، إذ بقيت على عهدي مع الآلام أحفظها وتحفظني ، وأنت في عينيك آلام وأحلام كالتي في عيني .
غير مرة سألني الرفاق _ وأنت أخي _ : أأنت لعماد ، وعماد أنت ؟! قلت : ليت أن الجواب يكون كلمات أو جملا ، لكنت سيد الكاتبين جوابا لكل سؤال ، والسؤال يعرفه الباحثون عن الندم المحتوم ، ويعرفه السائلون عن كفّارة تصعد بأصحابها إلى السماء ، أمّا الجواب فلكل دمعة تحرق جسد التراب المغطّى بالدماء .
أتراني يا عماد قد بدأت حكايات الجياع ؟ وقصص الهاربين من التتويج في يوم الزفاف ؟ أم تراني أقف على أطلال مسجدنا القديم ؟ وقد سجدت فيه المآذن في التراب ، فلا قديم ولا جديد ، بكت المآذن والمداخن ترتفع ، ولا شيء يعلو على صوت الرصاص !
جئت يا عماد مكبل الأيدي من جهة الغروب ، والشرق ضاع في زمن الحروب ، وكل التجارب والمتاجر والمراقص ، فله الحريق رغم وجود الماء فيه ، وله صواريخ الفضاء ، ولنا أن نشاهد كيف يمكن أن نموت ! وكيف يمكن أن نعيش بلا حياة !
آه أيها المشتاق إليّ وشوقي إليك ، والشوق يدفعني إلى البكاء ، فالشوق يعني أن أطير عبر غرناطة ، ومن هناك أعيد أشياء جدي الداخل إليها من قرون ، فله فيها بقايا سيفيه البتّار ، وله حصانه الذي اقتيد قصرا إلى روما ؛ ليمثل أمام حلقات السباق ، ولكي يروض للحواجز والطريق ، فكأن جدي لم يعبر البحر العميق ، وكأنّه ألقى بتاريخ مجيد أمام حضرة ألفونسو السادس العزيز ، يمزق تاريخنا ، ضاعت بلاد البحر يا جدي ، فأين البحر منّا والغريق ؟
أعود حزينا كلّما دخلت الجامعة ؛ لانّ الجامعة لا تحب الهاربين مثلي في المصلّى ، ولا تحب القادمين إليها مجبرين ، وأنا أحب أمي وأبي والأولاد ، وأحب عيون الحرية ، وأحب الجامعة قبل أن أدخلها ؛ إذ ظلت صورتها في خيالي حقيقة مدينة للحب والأخلاق ، والعلم والإبداع ، مدينة فضلى ، لا يلمس العاشقون فيها جهنم ، ولا يقبلون فيها جهنم ، ولا جهنم تنام فيها في الصباح .
أبحث عنك يا عماد ، وليتني أبحث عن موت يأتي إلي ، فسألتقيه ، وليتني أبحث عن خصر مائسة ، فسأرتقيه ، لكنني أبحث عن موجود في مفقود ، أبحث عنك ، وأنت مني كالدم في الوريد ، وأنت مني قصيدة للعشق والغرام .
أأبحث عنك وأن أراك في يقظتي بلسما للمريض ؟ وأنا أراك في نومي قصة للهاربين من الجوع والفقر ؟ أأبحث عنك وما زالت أسئلتي دون جواب :
من أوجد لغة الصاد ؟ من فرّقنا دون حساب ؟ من فرّق دجلة عن دجلة ، من يتّم طفلا في بغداد ؟ من باع المسجد والقرآن ؟ من أدخل حصانك نابليون ؟ من أوجد في دربي امرأة لا تعرف غير اللا ؟ فستان السهرة من لندن ، وخداع البشرة من باريس ، والرائحة العفنة من روما ، وروما أمّ مصائبنا يا عماد !
سئمت البحث عنك في فؤادي ، وأنت فؤادي المكلوم ، وجلست بحزني أتفكر ، كيف تدور الأيام؟ وكيف يكون الليل نهارا ؟ وكيف يكون النهار نارا ؟ وكيف يمكن أن تكون النار في قلب اليهود ؟!
سأبحث عن شعر ليليّ ينسيني إياك ، وسأبحث عن خصر يمتع وقت غناء ، وسأبحث عن جهة تتبدل بالألوان ، سأبحث عن هند ٍ أخرى ، تحملني بين ذراعيها طفلا ، وتقبلني كلّ مساء ، فلتجعلني هند ٌطفلا كآلاف الأطفال ، كلّ كبائرهم مغفورة ، وكلّ أمانيهم محضورة ، وينامون بحضن ناعم ، عند الأم وبنت العم ، وعند العاشقة المقهورة ، وأنا في بحثي استسلم لأني لن أنساك
هذه هندٌ غير الأولى ، هذه هندي تصنع تشريعا لم يسبق ، وتجعل مني رسولا للتبليغ ....يا عماد : بعد مسيرة عامين ، هندي في زمني هندات ، فكرهت صدور الفتيات ، وكرهت الشعر الليلي ، وكرت الأبواب المغلقة ، وكرهت الأبواب المفتوحة ، وكرهت الأبواب بلا أبواب ، وكرهت بلا أبواب الأبواب ، وأنا مجنون إن كانت هندٌ عاقلة ، أو كانت هندي في سيناء ، وتنظر للربع الخالي وترى الماء !
أتراني يا عماد وجدتك قبل البحث ، وحين البحث ، وبعد البحث ؟! وقد كثرت عليّ الأبحاث ؟! ومصادر مكتبتي محروقة ، ومراجعها مفقودة ، ومقاعدها لحقائب لبنى وليلى والمجنون !
لهذا بكيت حين تذكرت مسيرتنا ، خمسات الأعوام من الأوهام ، وآلاف الأيام من الآلام ، وجزيرة سومطرة حاضرة للنفي ، وجاهزة لاستقبال المدعوين !
وهكذا عرفت أني قد فقدتك قبل أن أموت ، وتعلو الذكريات فوق قبري المجهول ، فلا حياة ولا حياة ، وأدهشتني رغبة بالبكاء ، وأربكتني سيرة للدماء ، وبقيت وحدي ساهرا مع المساء ، فلا ليلي يمرّ ، ولا هند ٍ تمرّ ، والمرّ في طعامي والشراب ، والصوت يأتي من بعيد :
من يفقد الحب القويم كيف سيلتقيه ؟!