قصة “سلام الترجمان” الذي اشتهرت رحلته إلى الأصقاع الشمالية من قارة آسيا بحثاً عن سد ذي القرنين، فقد اعتبر المستشرق “دي خويه “رحلته واقعة تاريخية لاشك فيها وأنها جديرة بالاهتمام، وأيده في هذا الرأي خبير ثقة في الجغرافيا التاريخية هو “توماشك”، وفي الآونة الأخيرة يرى عالم البيزنطيات “فاسيلييف “أن سلاماً نقل ما شاهده في رحلته للخليفة العباسي الذي أوفده لهذه المهمة، وبعد أن نقل المستشرق الروسي “كراتشكوفسكي” هذه الآراء مع آراء المشككين في الرحـــلة، قــال: ويـــــلوح لي أن رأي - فاسـيلييف - هذا لا يخلو من وجاهة رغماً من أن وصف الرحــــلة لا يمكن اعتباره رسالة جغرافية، بل مصنف أدبي يحفل بعناصر نقلية من جهة وانطباعات شخصية صيغت في قالب أدبي من جهة أخرى.
وبدأت قصة الرحلة عندما رأى الخليفة العباسي الواثق باللّه (
232- 722م) في المنام حلماً تراءى له فيه أن السد الذي بناه ذو القـــرنين ليحــول دون تســــرب يأجـــوج ومأجوج، قــد انفتـــح، فـــــأفـــــزعه ذلك، فكلف ســلام التــرجمان بالقيام برحـــلة ليسـتكشف له مــكان سد ذي القرنين.
ويروي لنا المسعودي في كتابه (
نزهة المشتاق في اختراق الآفاق)، وابن خرداذيه في كتابه (
المسالك والممالك) قصة هـــذه الرحلة على
النحو التالي:
“إن الواثق باللّه لما رأى في المنام أن السد الذي بناه ذو القرنين بيننا وبين يأجوج ومأجوج مفتوحاً، أحضر سلاماً الترجمان الذي كان يتكلم ثلاثــــين لســــاناً، وقال له اذهب وانظر إلى هذا الســــد وجئني بخبره وحاله، وما هو عليه، ثم أمر له بأصحاب يســيرون معـــه وعــــددهم 60 رجلاً ووصله بخمسة آلاف دينار وأعطاه ديتـــه عشرة آلاف درهم، وأمر لكل واحد من أصحابه بخمسين ألف درهـــم ومئونة ســــنة ومئة بغـــل تحمل الماء والــــزاد، وأمر للرجال باللبـــابيــد وهي أكســـية من صـــــوف وشعر.
وحمل سلام رسالة من الخليفة إلى إسحاق بن إسماعيل صاحب أرمينية بتفليس، وكتب صاحب أرمينية توصية لهم إلى صاحب السرير، وذلك كتب لهم إلى صـاحب اللان، وهكذا إلى فيلا شاه وطرخان ملك الخزر، الذي وجه معهم خمسة أدلاء ساروا معهم 25 يوماً حتى انتهوا إلى أرض سوداء منتنة الرائحة، “فسرنا فيها عشرة أيام، ثم وصلنا إلى مدن خراب فسرنا فيها عشرين يوماً وسألنا عن خبرها فقيل لنا هي المدن التي خربها يأجوج ومأجوج، ثم صرنا إلى حصون بالقرب من الجبل الذي في شعبة منه السد، وفي تلك الحصون قوم يتكلمون العربية والفارسية، مسلمون يقرؤون القرآن ولهم كتاتيب ومساجد، وبين كل حصن وآخر فرسخان، ثم صرنا إلى مدينة يقال لها (
إيكة) لهـا أبواب من حديد وفيها مزارع وهي التي كان ينزلها ذو القرنين بعسكره، بينـها وبين الســـد مســـيرة ثلاثة أيام، ثم صرنا إلى جبل عال، عليه حصن، والسد الذي بناه ذو القرنين هو فج بين جبلين عرضه 200 ذراع، وهو الطريق الذي يخرجون منه، فيتفرقون في الأرض، فحفر أساسه 30 ذراعاً وبناه بالحديد والنحاس، ثم رفع عضادتين مما يلي الجبل من جنبتي الفج عرض كل منهما 25 ذراعاً في ســمك 50 ذراعاً، وكله بناء بلبن مغيّب في نحاس، وعلى العضادتين عتبة عليا من حديد طولها 120 ذراعاً، وفوقـــها بناء بذلك اللبن الحــــديد إلى رأس الجبل وارتفاعه مد البصر”.
“فيكون البناء فوق العتبة 60 ذراعاً وفوق ذلك شرف من حديد، في كل شرفة قرنتان تنثني كل واحدة على الأخرى، طول كل شرفة خمسة أذرع في أربعة، وعليه سبع وثلاثون شرفة، وباب من حديد بمصراعين معلقين عرض كل مصراع 50 ذراعاً في 75 ذراعاً في ثخن خمسة أذرع، وقائمتان في دوارة على قدر العتبة، لا يدخل من الباب ولا الجبل ريح، وعلى الباب قفــل طوله سبعة أذرع في غلظ باع في الاسـتدارة، والقفل لا يحتضنه رجلان وارتفاع القفل من الأرض 25 ذراعاً، وفوق القفل بخمسة أذرع غلق طوله أكثر من طول القفــل، وقفــيزاه كل واحد ذراعان وعلى الغلق مفتاح معلق طوله ذراع ونصف، وله 21سناً من الأســـنان واستدارة المفتاح 4 أشبار معلق في سلسلة ملحومة بالبـــاب طولها 8 أذرع في 4 أشـــبار، والحلقة التي فيــها الســلسلة مثــل المنجنيـق، وعتبة البـــاب عرضها 10 أذرع في بســـط مائة ذراع، ومـــع الباب حصـــنان يُكوِّن كل منهــما 200 ذراع
“وفي أحد الحصنين آلة البناء التي بني بها السد، من قدور الحديد ومغارف حديد، وهناك بقية من اللبن الذي التصق ببعضه بسبب الصدأ، ورئيس تلك الحصون يركب في كل يومي إثنين وخميس، وهم يتوارثون ذلك الباب كما يتوارث الخلفاء الخلافة، يقرع الباب قرعاً له دوي، والهدف منه أن يسمعه مَن وراء الباب فيعلموا أن هناك حفظة وأن الباب مازال سليماً، وعلى مصراع الباب الأيمن مكتوب {
فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقاً}، والجبل من الخارج ليــــس له مـــتن ولا ســـفح، ولا عليه نبات ولا حشيش ولا غير ذلك، وهــو جبل مســطح، متســع، قـائم أملس أبيض”.
وبعد تفقد سلام الترجمان للسد انصرف نحو خراسان ومنها إلى طبانوين، ومنها إلى سمرقند في ثمــــانية أشهر، ومنهــا إلى أســــبيشاب، وعبر نهر بلخ ثم صار إلى شروسنة فبخــــارى وترمذ ثـم إلى نيسابور، ومات من الرجال في الــــذهاب 22 رجـــلاً وفي العــودة 24 رجلاً.
وورد نيسابور وبقي معه من الرجـــــال 14 ومن البــــغال 23 بغلاً، وعاد إلى (
سر من رأى) فأخبر الخليفة بما شاهده.. بعد رحـــلة استمرت 16 شهراً ذهاباً و12 شهراً في الإياب”